الجمعة، 24 يناير 2020


شرفـــــــــــة الياسميــــــــــــــــــــن
سيــــــــــــــــــران الغـــــوطــــــــــــــــــة

     تبدأ تباشير الربيع في دمشق غالبا منذ أوائل شهر آذار( مارس ) مع إنحسار البرد القارس الذي كان سائدا، ويبدو ذلك بالشمس الدافئة نهارا وبدء إخضرار أغصان أشجار الشوارع وشتلات الزريعة المنزلية مما يعطي بهجة للناظرين ونشاطا في حركة المارة .يتجلى ربيع دمشق خصوصا في سهول الغوطة الواسعة التي تحيط بها شرقا وجنوبا وغربا حيث تكسو الأشجارخضرة رائعة تزينها أزهارالثمارالمتنوعة التي توشك على النضج تزامنا مع إرتفاع حرارة الشمس كلما إقترب الربيع من الصيف .
      تعتبرنزهة أو " ســـيران الغوطة " يوم الجمعة تقليدا راسخا لدى سكان دمشق في سنوات السبعينات وحتى أواسط التسعينات ، فما يكاد يحل ضحى يوم الجمعة إلا وتدب الحركة في معظم أحياء دمشق القريبة من شرق المدينة مثل حي الميدان وباب مصلى وباب شرقي وباب توما والقصاع ومنطقة العباسيين ، وذلك إستعدادا للسيران في بساتين الغوطة الشرقية المثمرة التي تغطيها شمس آذارالدافئة والممتدة بين منطقة المليحة وجوبر وحتى أطراف زملكا وعربين ووصولا لبحيرة العتـيـبـية مصب نهر بردى .
     في الشارع الضيق القائم وسط صفوف الأشجار الخضراء والبساتين التي تفتحت أزهارها قريبا من باب شرقي يلاحظ منذ الضحى تكاثر وإزداد حركة المرور بمختلف وسائط النقل ، سواء كانت سيارات أوشاحنات صغيرة كورية الصنع أوباصات نقل الركاب أوفانات بل وعربات خشبية تجرها الخيول ومشاة من الشباب والجميع يشكل رتلا متلاصقا يتقدم بطيئا نحومنطقة المقاهي والمطاعم الواسعة المشجرة غير المسقوفة أوالبساتين العديدة المنتشرة في أطراف أوعمق الغوطة ، ويشكل خليطا من كافة الأعمار والفئات الإجتماعية ، وخلال هذه المسيرة تصدح العديد من السيارات أوالشاحنات المكشوفة بأصوات الأغاني منطلقة من أجهزة الراديو والمسجلات أوبغناء بعض المجموعات على إيقاع الطبل أو الدربكة وتصفيق الأكف ، ويسود جميع الوجوه بشاشة واضحة وإستعدادا لتقبل المرح .
     ومع إقتراب ساعات الظهيرة تتلاشى زحمة المرور وتستقر العديد من الأسر القادمة في مساحات خضراء بجانب أوفي قلب البساتين ، وتفرش الأرض بمدات من الحصر أو البسط أوالحرامات وبعض الكراسي الخشبية ، وتبدأ النساء في حركة نشطة لإعداد سفرة الغداء ،وتخرج أدوات المطبخ المتنقلة من سكاكين وملاعق ودفات خشبية لتقطيع الخضار واللحوم و تحضير التبولة والسلطات والكبة النية والحمص بالطحينة والفول المدمس . بينما يكون الرجال غالبا يحتسون الشاي ويدخنون السجائر والبعض منهم أحضر معه عدة الأركيلة ليدخن التنباك أوالمعسل ، والبعض الآخر منهم عمد لتجهيز النارمن أجل شواء اللحم ، إما بمنقل جلبه معه ، أو صنع من الأحجار موقدا لشواء أسياخ اللحم الضاني التي لاتلبث أن تتصاعد منها دخان الشواء عندما تطرطش الدهون بالنار الملتهبة في منقل أو موقد الشواء .
وإذا تسنى لك المرور بجانب التجمعات الأسرية التي إتخذت من أرض البستان محلا لقضاء النزهة وقت الطعام فسوف تجد نفسك وكأنك تشاركهم طعامهم الذين يقبلون عليه بشهية واضحة حيث ترى الأصابع تغمس قطع الخبز الطازج في الصحون المنبسطة على الأرض ،فهنا جاط كبير من التبولة أو الفتوش أو السلطة وبحانبه صحن فيه تلة عالية من الكبة النيئة وآخرمن الحمص المسبحة أوالمتبل أوبعض المقالي من بطاطا وباذنجان وكوسا أوأسياخ لحم الضأن المشوية ، وإذا رآك رب الأسرة مارا فسوف يدعوك للمشاركة بعبارة " تفضل " .
    أما في المقاهي والمطاعم الواسعة فالحركة على أشدها من طاقم الخدمات لتلبية طلبات الزبائن بسرعة دون نسيان أي صنف ، ومعظم الوجبات المرغوبة تتألف من شواء لحوم الكباب أو الشقف والدجاج بجانبها شرحات البصل المحمرة والمقبلات من السلطات والحمص والمحمرة ولابأس من زجاحة مشروب كحول العرق أو النبيذ والأسعار تعتبر مقبولة في مقاييس تلك الفترة .
       وما تكاد الشمس تقترب من المغيب حتى تبدأ حركة المرور المعاكسة بإتجاه المدينة ، الوجوه يكسوها الوجوم لإنقضاء هذا اليوم ، وإذا كان الركب الصباحي يعكس شروق الشمس ومايبثه من أمل فإن غروب الشمس الذي يرافق العودة يعطي شعورا بالإحباط والرجوع لدائرة الحياة الجدية ومعاناتها  
     مع تسارع إنتشار المنتزهات والمقاهي والمطاعم الكبيرة والملاهي على أطراف العاصمة وخاصة طريق المطار ، وشق الشوارع العريضة وبناء المساكن و المصانع ومكاتب الشحن والمستودعات التجارية بقلب البساتين ، تلاشت نزهات الغوطة وأضحى طريقها الضيق - الذي كانت تصطف على جانبيه الأشجار المثمرة من الجانيرك والخوخ والدراق واللوز وغيرها- شارعا عريضا ذو إتجاهين وعلى جانب الأرصفة الإسمنتية ، مصانع الكبريت ومصابغ النسيج ومكاتب الشحن ومخازن السلع والأقمشة وبعض البساتين الصغيرة المهملة تتمايل فيها أشجار شبه عارية يكسوها الغباروتتدلى وريقاتها كأنها دموع تبكي على ماض جميل مزقته نفس الأيادي التي كانت تصفق مبتهجة وشتمته نفس الأصوات التي كانت تغني سعادة.




الخميس، 23 يناير 2020




?If You’re So Smart, Why Aren’t You Rich
إذا كنت ذكيًا جدًا ، فلماذا لا تكون غنيًا؟
      ما مقدار نجاح الطفل في المستقبل الذي يتمتع بالذكاء الفطري؟ يقول الاقتصادي جيمس هيكمان ( الحائز على جائزة نوبل بالإقتصاد عام 2000 ) أنه ليس كما يظن كثيرمن الناس. لأن البيانات تشير إلى تأثيرضئيل أو ثانوي في هذا المجال ، ولكن إذا كان معدل الذكاء هو مجرد عامل ثانوي في النجاح ، فما الذي يفصل أصحاب الدخل المنخفض عن ذوي الدخل المرتفع؟ أو كما يقول المثل: إذا كنت ذكيًا جدًا ، فلماذا لا تكون غنيًا؟       
العلم ليس لديه إجابة محددة ، على الرغم من أن الحظ يلعب دورًا بالتأكيد. لكن هناك عاملًا رئيسيًا آخر هو الشخصية ،حيث وجد أن النجاح المالي مرتبط بالضمير ، وهي سمة شخصية تتسم بالاجتهاد والمثابرة والانضباط الذاتي . لا تعكس الإختبارات درجات الذكاء فحسب ، بل تعكس أيضًا ما يسميه هيكمان "المهارات غير المعرفية"، مثل المثابرة وعادات الدراسة الجيدة والقدرة على التعاون ، حيث يعتقد هيكمان أن النجاح لا يتوقف فقط على القدرة الفطرية ولكن على المهارات التي يمكن تدريسها وإكتسابها ، ويقول إن الكثير من الناس يفشلون في اقتحام سوق العمل لأنهم يفتقرون إلى المهارات التي لا يتم قياسها في إختبارات الذكاء عادة بل يتم الحصول عليها سواء بالتعليم أو الخبرات في مسيرة الحياة اليومية .
مقال مترجم بتصرف وإختصارمن :
Bloomberg Opinion

الاثنين، 20 يناير 2020





بين باب الجابية وباب سريجة والباب الصغير
من زاوبة شرفة الياسمبن

مقالتي المنشورة في جريدة "الوطن " الصادرة في مسيسياغ - تورنتو - بكندا بالعدد رقم 318 وبتاريخ 03 / 05 / 2019 وبالصفحة رقم11 

 وهذا نص المقال في حال تعذروضوح الصورة وشكرا لمن يقرأه :
بين باب الجابية وباب سريجة والباب الصغير
باب الجابية أحد أبواب دمشق السبعة المشهورة  ، وشهد هذا الباب إختيار مروان إبن الحكم لخلافة الدولة الأموية ، ولازال رغم السنين الطوال التي مرت على دمشق يحتل موقعا حيويا بشريا وعمرانيا وتجاريا ويشكل عقد إتصالات مع مناطق عديدة تعتبر روح الحياة الشعبية الشامية .
 السوق الضيق الممتد من باب الجابية حتى باب سريجة ، تتلاصق فيه الدكاكين بمساحات صغيرة غالبا ، التي تبيع مختلف أصناف مواد البقالة ، ومحلات صناعة الحلويات وأفران المخبوزات ، ويغص بالناس الذي يبحثون عن السلع المعاشية الضرورية بسعر معتدل وفي سوق واحد .
مايكاد المتجول الوصول لنهاية السوق حتى يواجه بفسحة عريضة مضيئة ومحلات بمساحات واسعة تعرض بضائعها من المواد الغذائية كالأجبان والألبان واللحوم والأسماك والخضراوات والفواكه ، ضمن واجهات مبردة مغطاة بالزجاج محافظة على النظافة ، وبدلا من السوق الضيق والأزقة الواصلة إليه ، فهذا السوق العريض منفتح على شوارع جانبية مزدحمة حيث يتقاطع مع شارع خالد إبن الوليد.
بالعودة لباب الجابية ستجد مقابلك جامع سنان باشا بجدرانه المميزة بالرخام الأبيض والأسود وبجانبه الأسواق التجارية القديمة المختصة مثل سوق الصوف وسوق البرغل والشماعيين  ، ووبجوارها نشأت مستودعات و أسواق جديدة غالبيتها محلات بيع الألبسة والمنسوجات هي عبارة عن حارات ضيقة وأبنية طينية قديمة لم تعد تصلح للسكن الحديث ومرورالسيارات  ووسائل النقل فتحولت لموقعها التجاري وتواصلها مع سوق مدحت باشا ، إلى أسواق شعبية بالجملة والمفرق إختصرت بتعبير " سوق الصوف " الذي ينافس أسواق  الجملة الحديثة .
في نهاية سوق الصوف سيجد المتجول نفسه بجانب شاهد أثري هام وهو" الباب الصغير " الذي لازال قائما ومفتوحا على مصراعيه ، ضمن سوق الدقاقين العريق  الذي يتقاطع مع سوق مدحت باشا بالشارع المستقيم . وبجانب الباب محلات ومخازن كبيرة لتجارة الجملة في الزيوت والسمون ومشتقاتها ومكاتب لشحن البضائع بين المحافظات .
وفي هذا المكان فإن المتجول سيجد نفسه في وسط شبكة متواصلة من الأزقة الضيقة الموصلة إلى الحارات الدمشقية القديمة والحديثة مثل إبن عساكر وحي الشاغور وحي الميدان وباب مصلى والمقبرة  وباب شرقي وحارة اليهود  وغيرها .
وفي تجوالك بهذه الأسواق بين تلك الأبواب ، لن تجد وجوها عابسة رغم كل ضغوطات الحياة التي يعانيها المواطن السوري ، ولن تجد تجهما وجشعا في وجوه أصحاب الدكاكين ، بل غالبا إبتسامة خفيفة وألفاظ لطيفة ، فلو سألت أي واحد منهم عن سلعة ما سيقول إن لم تتوفرلديه : بتلاقيها عند جاري على بعد خامس دكان مثلا ، تلك هي الروح والنفسية الشامية التي تلاقت مع كثير من الغزاة ، ولكن بدلا من إخضاعها وإذلالها فإنهم عادوا لبلادهم يحملون أسماؤها ودينها .

محســـــــــــــن القطمــــــــــــه                مسيسياغا – تورنتو – كندا في 31 / 03 / 2019 




يوم تسلقت لمكتبة شقيقي الكبير
مـــــن الــــذاكــــرة

     بدأت عندي هواية مطالعة القصص والروايات عندما كنت بالصف السادس بالمرحلة الإعدادية أي في أوائل الخمسينات من القرن الماضي ، وكنت وكثيرمن أقراني نلجأ لمكتبة صغيرة جدا قريبة من مدرسة ملجأ الأيتام في وسط مدينة حماه  ،تعلق على واجهتها المجلات والروايات البوليسية  المستعملة وخاصة روايات أرسين لوبين والمسمى اللص الظريف ويؤجر صاحبها كتاب القصة بفرنك ليوم واحد أو إثنين .
    وكان مايحز بنفسي أنني أمشي مسافة طويلة وأدفع من خرجيتي أجور رواية لمدة قصيرة أشبع نهمي للمطالعة ‘ في حين أن شقيقي الكبيرتوفيق لديه خزانة مصفوفة بالكتب والروايات والمجلات ولكنه شديد الحرص عليها يمنع علينا نحن إخوته الصغارمن فتح هذه الخزانة وتصفح محتوياتها خوفا عليها من الضياع أوالتمزق ، وكنا جميعا نهابه لشخصيته الجادة ووسامته وقامته المديدة ، لذلك كلما دخلت غرفته حاملا له فنجان قهوته أوإحدى مستلزماته أنظربطرف عيني نحو المكتبة فأجدها مغلقة ومفاتيح عديدة معلقة داخل القفل ، فأتمنى بيني وبين نفسي لو أن شقيقي ذوالسطوة والهيبة ينسى مرة واحدة هذه الخزانة بدون قفل ، ومن ثم أعود راجعا متحسرا .
     وفجأة تسنت لي باحد الأيام فرصة غيرمتوقعة ، فبعد ذهاب شقيقي لوظيفته صباحا طلبت مني الوالدة توصيل بعض ألبسة أخي بعد كيها لغرفته ، وفور دخولي وكالعادة نظرت نحوخزانة الكتب وكانت المفاجأة غير متوقعة عندما شاهدت المفتاح لازال بفتحة قفل الخزانة وتتدلى بجانبه العديد من المفاتيح المتنوعة ، فإبتسمت فرحا بأن الفرصة السانحة قد حللت ولكنها تحتاج لتحايل وخفة فالوالدة لن تسمح ببقائي بغرفة شقيقي تحسبا من العبث بأغراضه والتعرض لخصوصيته وتعرف رغبتي بالإطلاع على كنز الكتب .
     غافلت الوالدة مشغولة بالمطبخ وتسللت لغرفة أخي حيث واجهت أول عقبة بأن طول قامتي لايسمح لي بالوصول لأن الخزانة حائطية وفتحتها عالية ، فحملت كرسيا وضعته في مكان ضيق وصعدت بحذرومن ثم حركت المفتاح وسمعت بسرور طقة القفل حيث تمكنت من فتح باب الخزانة ، وبخفة وسرعة تناولت كتابي المنشود الذي أعرف مكانه من سلسلة روايات دار الهلال بعنون "المملوك الشارد" من تأليف جرجي زيدان ، ومن ثم أعدت الأمور كما كانت وإنسللت راجعا لغرفة الجلوس وخبأته بعيدا عن الأنظار  .
   أقبلت على قراءة الرواية سرا بوضعها ضمن كتاب مدرسي خوفا من إعتراض الوالدة وتوبيخ الوالد وغضب أخي الذي يحرص على عدم تعرض كتبه ومجلاته لأي مس من إخوته إلا في حالات خاصة ، ورغم إنفعالي فسرعان ماشدتني أحداثها فتابعت القراءة بتلهف ، لما فيها من مغامرة وجرأة تلهب خيال الشباب ، فالرواية تحكي عن مجزرة القلعة التي دبرها والي مصر السلطان محمد علي باشا الكبيروقضى فيها على المماليك وكيف إستطاع أحد فرسانهم الشجعان الهرب من القلعة على صهوة جواده  وفرمتواريا خارج القاهره ومصر حتى وصل بلاد الشام.
    كان لزاما عليّ إعادة الكتاب إلى مكانه بل والحصول على كتاب آخردون أن يعلم أحد بالأمر ، ولكن ذلك ليس بالسهل فقد إختفت المفاتيح في غياهب جيوب أخي الذي صارينظرلي بإرتياب وأنا أراقبه عند خروجه صباحا إلى عمله ، لذلك إستبقت الأحداث وصارحت الوالدة بما حصل ورجوتها مساعدتي بإرجاع الكتاب إلى مكانه  متعهدا عدم تكرار ذلك مستفبلا .ولكن المفاجأة أن شقيقي لم يغضب بل شعر بالسرور لهواية المطالعة عندي ورحب بإعارتي أي كتاب أرغبه ولكن بشرط إعادته بحالة جيدة  ، ومن تلك الرواية ومنظر الخزانة الحائطية المليئة بالكتب ،بدأت هواية المطالعة الجادة عندي لأقرأ كل مايصل ليديّ من الكتب والقصص العربية والأجنبة المترجمة.
  
  محســــــــــــــن القطمــــــــــه                     
مقالي في جريدة الوطن الصادرة في مدينة مسيسياغا- تورنتو - كندا بالعددرقم329 وتاريخ 
4 / 10 / 2019 والصفحة رقم21 






 مــــــــن الــــــــــــذاكـــــــــرة

مشـــوار التعليــم بيــن البيــت والمدرســة الثانويــــة

        بعد نيلي الشهادة الإبتدائية دخلت المدرسة الإعدادية في مبنى ثانوية إبن رشد بأوائل الخمسينات ، وكغيري من الطلاب كان عليّ يوميا القيام بمشوارالذهاب من البيت  للمدرسة مشيا على الأقدام والعودة بنفس الطريقة بعد إنتهاء الدوام ، وإستمرت هذه الحالة حتى نيلي الشهادة الثانوية في دورة 58 / 59. ولهذه المدرسة العريقة مبنى ضخم مهيب تم تصميمه على غرارمدرسة التجهيزأو جودة الهاشمي في العاصمة دمشق ، بل ويصلح كبناء كلية بإحدى الجامعات ، ويقع في منطقة هامة وملتقى عدة طرق ، قريبا من حي المدينة القديم والتاريخي المتصل بشارع أبي الفداء، ومن نزلة الدباغة حيث سوق المكتبات العديدة وصولا لمركز المدينة في ساحة العاصي ، ومن نزلة شارع المحطة المؤدي لساحة المغيلة .
    الوصول من بيتنا في حارة "بيت الحوراني " أول طلعة المحطة إلى مدرستي بثانوية إبن رشد يحتاج لوقت طويل سيرا على الأقدام حيث لم توتضع باصات النقل الداخلي بالخدمة في ذلك الوقت بل حتى عام 1957 لذلك لابد من اللجوء إلى الطرقات الداخلية بين الأحياء التي تختصرالمسافة للوصول بالوقت المحدد لدخول الطلاب للمدرسة حيث يغلق الباب الرئيسي في الساعة الثامنة بالضبط .    
    كنت أهرع من بيتنا بإتجاه الشارع الطويل المؤدي للأحياء المرتفعة والذي يطل من جانبه الأيمن على الأحياء المنخفضة المجاورة مثل حارة الجسر والبرازية ، وعلى جانبه الأيسر بيوت غالبيتها جدران حجرية عالية ومؤلفة من عدة طوابق لها شرفات مسورة بقضبان الحديد وبعضها لها مداخل بعدة درجات وأصحاب هذه البيوت من العائلات المشهورة والميسورة أهمها عمارات آل البرازي ، والطبيب شكري لطفي ومنزل الرئيس السوري الأسبق أديب الشيشكلي وأخيه صلاح الشيشكلي وبيت أنسباء الرئيس السوري السابق اللواء فوزي سلو ،وبعدها بيوت العائلات المتوسطة مثل عمارة بيت الحلبي التي يسكن ضمن طوابقها أحد أبناء عمومتي ، وبوصولي لهذا البناء أكون قد أنهيت السير بالشارع المرتفع لأبدأ بالشارع الذي يتدرج نزولا من خمارة نعمة وحتى سوق الشجرة . وهوشارع حيوي بقلب حي غالبيته من الأخوة المسيحين ويسمى "حي الشيخ عنبر" وفيه مدرسة وكنيسه للسريان الأرثوذكس .
      من ساحة سوق الشجرة غير بعيد عن الخان والجامع الأثري العريق، أدلف يسارا إلى شارع ضيق بعد إجتيازي عدة محلات  من البقالة وباعة الحبوب الفوكه والخضراوات، وهذا الشارع يخترق حي "العاقبة " الذي يضم عدة عائلات مسيحية متجاورة مع العائلات الإسلامية وبعد ذلك ينفرج الشارع بالوصول لحي الحوارنة الذي يخترقه الشارع الرئيسي القادم من دوار المحطة و"نزلة جزدان " وفيه مبنى المستوصف الحكومي المجاني ، وقبالته ملعب كرة القدم بساحة المغيلة وغير بعيد منه يظهرالحائط الخلفي العالي لمبنى ثانوية إبن رشد ، فأسارع الخطى على رصيف الشارع العريض الذي يتحول إسبوعيا إلى " سوق الخميس " لأصل قبل أن يسبقني وقت إغلاق باب المدرسة .
    يغلب على طلاب الصفوف الثانوية بالمدرسة العنفوان بل بعضهم كان يتنمر على زملائه، وكذلك الإشتغال بالسياسة والإنتماء إلى الأحزاب الإشتراكية والدينية ، وكثيرا ماتقع مشاحنات وصدامات بين هذه الفئات ، وخلال الفرصة بين الدروس كانت تحدث التجمعات والنقاشات العديدة في الباحة الواسعة بين الطلاب ، والبعض منهم يهرع إلى "الندوة " على غرار الكوفي شوب حيث يتناولون السندويش أوأقراص العجوة والشاي وآخرون يلعبون كرة الطاولة (البينغ بونغ ) ومنهم يختارمكان بعيد يتعاطى تدخين السكائر التي كانت محظورة كليا، بل البعض يقفزمن الحائط ويهرب من المدرسة .
       مشوار العودة عصرا أوقرب المساء لايتم على نفس طريق الصباح ، حيث تنتفي الحاجة للوصول مبكرا، ويصبح لدى الطالب متسعا من الوقت لشراء بعض المستلزمات من المكتبات أو التلهي على أبواب صالات السينما التي كانت مرغوبة جدا في حينه ، وكنت في كثير من الأحيان أخرج من باب الثانوية لأدخل من آخر سوق الطويل مرورا بسوق الحدادين وسوق جلباب لأصل دكان والدي حيث ألاحظ وقد أصابه الملل ويقضي الوقت بدكان أخيه يتحادث معه أومع أحد من أبنائه .  
    وفي بعض الأوقات غير القليلة كنت أرجع بنفس الطريق الصباحي أوتعديلات طفيفة فيه ، ولكن طريق العودة يحمل مشقة أكثرلما يتطلبه من صعود طلعة حي الشيخ عنبر ومنها للأحياء المرتفعة لفترة غير وجيزة ، ومانكاد نصل أخر الطلعة حتى نشعر بالحركة النشيطة بجانب محلات بيع الخمور القليلة حيث يبدأ شراء بطحات "العرق " ولوازم طاولة السهرمن مأكولات ومكسرات ، ولاألبث أن أشم الرائحة النفاذة الصادرة عن مواد ورشة طباعة النسيج الموازية للطريق العالي ،و بعد إجتياز هذه المنطقة أصل لشارع عريض يؤدي من اليمين  إلى شارع المحطة قريبا من بيت المحافظ ولكن غالبا كنت أسلك الزقاق الرئيسي بين البيوت السكنية وصولا لمساكن بيت الحوراني حيث أصبحت قربيا جدا من بيتنا .    
     كانت آخر مشاويري في هذا الطريق ربيع عام 1959(أيام الوحدة ) حيث تقدمت لإمتحانات الشهادة الثانوية العامة إذ بعد نجاحي بتلك الشهادة ،غادرت مدينة حماه إثر دخولي كلية التجارة بجامعة دمشق بنفس ذلك العام . وهكذا وبعد إنقضاء أكثر من 60 عاما على تلك الفترة من العمر فلازالت ذكريات مدرسة ثانوية إبن رشد العريقة ( التي صارت تسمى ثانوية السيدة عائشة حاليا ) تشدني إليها بشغف ، سواء من الشخصيات البارزة التي تولت إدارة المدرسة حيث كان المدير شبيه العميد والمدرس أستاذ بروفيسور، لهما هيبة وإحترام وسلوك حازم ومهذب ، أومن الطلاب على إختلاف مشاربهم الذين دخل الكثير منهم معترك الحياة الإدارية والمهنية والسياسية ، أتذكر تلك الفترة حيث كانت المشاوير اليومية من البيت للثانوية والعودة سواء تحت هطول الأمطار الغزيرة أوأشعة الشمس الدافئة أحيانا والقائظة أحيانا أخرى ، إلا أنها كانت مفعمة بالحماس والنشاط فقد كنت كما شباب تلك الأيام نقرع باب المستقبل الواعد بحماس وثقة غير دارين عن خيبات الأمل  والأحداث الجسام التي تنتظر ذلك المستقبل المريروالأليم سواء لمدينة حماه أو لبلدنا الغالي سوريا.

  محســــــــــــــــن القطمــــــــــــــــه - مسيسياغا - تورنتو- كندا تاريخ 15 / 08 / 2019




  يكمن سر "القصص العظيمة" في عدم وجود أسرار فيها. "القصص العظيمة" هي القصص التي سمعتها وتريد الاستماع إليها مرة أخرى. تل...