الثلاثاء، 22 يونيو 2021

     


    


بقايـــا حيـــــاة   

لقد استغرق الأمر عدة أسابيع لدخول غرفة أبي بعد رحيله عن الدنيا،  وتمشيطها وفرز قطع محتوياتها إلى أكوام 

كان لديه الكثير من الكتب موزعة على عدة أماكن وخزائن مرصوفة بعناية فائقة وفق تصنيفاتها، وأبرزها الكتب الأدبية لكبار الروائيين العالمين ،والكتب المهنية ،إلى جانب مؤلفات التراث والمعاجم وبعض الموسوعات المميزة التي كانت مع المجموعات التاريخية في حالة جيدة 

كانت بعض الروايات العالمية والعربية لكبار الكتاب مثل تولستوي وهمنغواي وماركيز و كويللو ونجيب محفوظ وعبدالسلام العجيلي مكدسة بدقة على منضدة سريره أو طاولة القهوة ، مخنوقة بجانب أوراق ودفاتر ملاحظات وأقلام فحم وعلاّم ملونة. 

تغص أرفف خزائن الكتب بالعديد من المصنفات والملفات التي تضم الكثير من الأوراق والمستندات التي تظهر حرصه على توثيق سيرة حياته التعليمية والوظيفية والمهنية والصحية والرجوع إليها كلما لزم الأمر  ، 

تكاد خزائن المكتبة بما فيها من كتب وملفات وشهادات ، تحكي عن حياة إنسان رافقها سنين طويلة منذ كانت خزانة خشبية بسيطة لطالب ثانوي ثم مجموعة صناديق صغيرة مثبتة على الحائط لموظف طموح ، تغلب عليها الكتب اليسارية والثورجية، لكنها الآن مكتبة غنية ومتنوعة تفصح عن فكر متحرر ومنفتح ، تعبرعن بقايا حياة  لمن غادر الحياة للأبد.. 

لم يكن مضى على رحيله سوى بضعة أيام عندما وقفت أتفحص طاولة مكتبه الكبيرة ذات الأدراج السبعة حيث إعتاد أن يجلس على كرسيه مصوبا نظره نحو شاشة اللابتوب وبجانبه جهاز الموبايل، وصرت أسحب الأدراج وأفرّغ محتوياتها وأضعها على الطاولة ، بينما كنت أتفحص كل قطعة أثرية أبوية بحماسة ومنهجية عالم آثار هاو ،كان لدي أيضا فضول كبير لمعرفة جوانب حياة من أعطاني الحياة ، فصار أمام ناظري خليطا غير متجانس من الأشياء والقطع التي أصبح بعضها منسيا بفعل الزمن :

مجموعة غير مرتبة من أقلام الرصاص والبرّايات والمحّايات وبعضا من الدبابيس والشكّالات ، بجانب علب أنيقة بداخلها أقلام إستيلو قديمة بحبرمائع أصبح جامدا ، وأقلام حبر جاف تحتاج لتغيير إنبوبها لتكتب، و كاميرات يابانية من عهد بداية ظهور للكاميرات الملونة ، وعدة ساعات جذابة من ماركات متنوعة ، وقداحة عادية تلاشى غازها بجانبها كيس مخملي بداخلة عدة قطع "غليون "لازالت رائحة تبغ معطر محروق وقديم جدا تنبعث منها رغم عدم إستعمالها منذ أكثر من ثلاثة عقود ، وعلب كرتون وعدة ألبومات  للصور التذكارية والعائلية ،وعديد من قطع نقدية معدنية لدول أوربية وعربية بقيت لديه خلال أسفاره ، وعدة نظارات للقراءة وأخرى مثلها للرؤية البعيدة أو شمسية ملونة ، وكثير من الأشياء التي لاتعمل إلا بوجود صاحبها الأصلي الذي تركها وغادر للأبد ،شعرت بغصة خانقة وبألم الفقد وأنني أقف الآن أمام 

"بقايا حياة " لمن وهبني الحياة

فتحت خزانة ملابسه فكانت الكنزات الشتوية مطوية بعناية وموضوعة بالرف العلوي حيث تحته دولاب علقت فيه الجاكيتات والبنطلونات بألوان يغلب عليها اللون الغامق، بجانب العديد من القمصان المدلاة و المصقولة بعناية ، وكثير من الكرافات المخططة بألوان جميلة العديد منها كان هدية في مناسبات . مددت يدي ولمست الجاكيت الكحلي المفضل لديه عادة وعلى كتفه لازالت بضعة شعرات بيضاء، ومن ثم أقتربت و شممته أحاول أن أستذكر أناقته ورائحته المحببة الممزوجة بعطره الرجولي المميز بهيبته ، وفوجئت بإنعدام الرائحة فكأنه قد غادر وأخذ رائحته معه . أدخلت يدي في جيب الجاكيت فوجدت بداخله محرمة بيضاء نظيفة مطوية بعناية على حوافها خطوط زرقاء ،وحلقة معدنية علقت بها مفاتيح باب البيت ومكتب عمله، وبالجيب الآخر مسبحة غير ثمينة لأنه قليلا ماكان يستعملها ،  و عدد قليل من قطع نقدية معدنية في الجيب الصغير ، ولكن عندما سحبت بيدي من الجيب الداخلي العلوي المقابل لقلبه الذي توقف الآن عن الخفقان ،لامست أصابعي جزدان تقليدي جلدي ثمين وسميك من طبقتبن ، ولما فتحته وجدت صورتي من أيام الطفولة تطل من النافذة الشفافة للمحفظة ،عندها أحسست بغصة ودموع تتساقط من مآقي فلم أعد أستطيع المتابعة ،وحملت الجزدان و الأغراض الأخرى وأغلقت باب خزانة الملابس وكأنني أترك فيها " بقايا حياة " من وضعني داخل قلبه طوال الحياة

محسن القطمه - أوكفيل - أنتاريو - كندا - ٢٣ / ٦ / ٢٠٢١



 


  يكمن سر "القصص العظيمة" في عدم وجود أسرار فيها. "القصص العظيمة" هي القصص التي سمعتها وتريد الاستماع إليها مرة أخرى. تل...