الجمعة، 21 فبراير 2020

من قاسيون أطل ياوطني






شــرفة الياسميـــن
مــــن قاسيــــــــــــــون أطـــل يا وطنــــي
     يحتضن جبل قاسيون دمشق الشام بحنان وحب أبدي وجد منذ بداية عيش البشر وكان شاهدا على أول صراع بينهم عندما قتل قابيل أخاه هابيل وسال الدم على صخور الجبل بجانب المغارة ، ومنذ ذلك الزمن الموغل بالقدم بقيت دمشق وفية لقاسيون ، فمع فجر صباح كل يوم من الشرق والجنوب والشمال تنظر عيون دمشق من كافة أحيائها سواء من السهول المنبسطة في الغوطة أو من مآذن الجامع الأموي العالية العريقة ، أو من الأعمدة الرومانية القديمة في الباب الشرقي والقيمرية أومن بيوت الميدان والقدم ، تنظر نحو الغرب لترى قاسيون كعادته رابضا بمهابة وحنان ، يستقبل إشعاعات شمس  محملة بالدفء وأريج زهور البساتين والأشجار .
 ورغم صخور الجبل الأشم وصعوبة صعود قمته فقد إستقبل على مدى سنين طويلة أهالي دمشق الذين لشدة عشقهم بالعيش قربه شيدوا البيوت العديدة بجواره والتي أصبحت مع الأيام أحياء عريقة ، فكانت أحياء  المهاجرين  والشيخ محي الدين وركن الدين ، وزاد إرتفاعها بالعديد من الجادات المتفرعة منها والتي تكاد تصل القمة ، رغم صعوبة المواصلات والبنية التحتية لهذه الجادات ، وحديثا في أوائل الأربعينات نشأ حي أبورمانة الراقي  وفيما بعد وبسنين الخمسينات نشأ حي المالكي الشهير بمباني الهيئات الدبلوماسية والمقاهي والمطاعم والمولات الحيثة .
     إن إرتفاع جبل قاسيون إلى أكثرمن ألف ومائة متر عن سطح البحر جعله مقصدا سياحيا لأهالي دمشق للترويح عن النفس خصوصا خلال أشهرالربيع والصيف للتمتع بالهواء النقي القادم من البحر حيث يصبح لطيف البرودة منعشا ، لذلك وخاصة في الأيام الحارة وقبل أن تقترب الشمس من المغيب تتكاثر السيارات الصاعدة القادمة حيث تقف وتتدفق من أبوابها سيل الركاب من مختلف الأعمارو الفئات الإجتماعية  ، محملين بالكراسي والمدات ويأخذوا لهم مكانا مطلاّ على مدينة دمشق تحت ظل قمة الجبل ، حاملين معهم مأكولات خفيفة سهلة التناول ، وزجاجات المياه والعصائر، ويقضون وقتهم يتسامرون بأصوات منخفضة وهم يحتسون القهوة أويشربون الشاي أو يتمشّون بالشارع المحصور بين الجبل والإطلالات المشجرة . ولكن بعض من الواصلين يلجؤون للمقاهي العديدة المتلاصقة التي إختارت أفضل المساحات الضيقة ولكنها المطلة على مدينة دمشق .
      مع حلول الظلام رويدا رويدا تضيئ الأنوار في شوارع دمشق وأبنيتها ومعالمها حتى يجد الناظر من قاسيون أنه أمام لوحة مذهلة ، فكأنه ينظر إلى حبيبات من جواهر الألماس المتلألئة على بساط مخملي داكن ، حيث تشع الأنوارمن البيوت القريبة في أحياء المالكي و أبورمانة والمهاجرين نزولا للأحياء القديمة وحتى تتضائل في أقصى قرى الغوطة الشرقية . في هذه اللوحة البانورامية ، تستطيع أن ترى من أعلى الجبل ، المبنى المهيب للجامع الأموي والأنوار المنبعثة من صحن الجامع ومآذنه الرائعة ، كما ترى واجهة مبنى المتحف الوطني قريبا من واجهة مبنى كلية الحقوق بجامعة دمشق ، وليس ببعيد المبنى التاريخي " للتكية السليمانية " بجوار نهر بردى ، وسوف تجذبك الأنوارالمضيئة في" محطة الحجاز" العظيمة وبجانبها مبنـى " البريد " الضخم ، ولن يصعب عليك من بعيد إكتشاف ساحة المرجة من الضوء الساطع في أعلى النصب التذكاري وكثير غيرها مما قد تعجز عن معرفة هذا أوذاك من المعالم الكبيرة المضاءة .
     ومنذ أواخرالتسعينات ومابعدها إزدهرت منطقة قمة قاسيون وخاصة بعد شق وتجديد بعض الطرقات التي تصل الجبل بالطرقات الحديثة ورافق ذلك إقامة بعض المطاعم والمنتزهات القريبة جدا من القمة و من عقدة الطرق الدولية وتتمتع بإطلالات رائعة على مدينة دمشق ومعالمها وتقدم خدمات سريعة ومأكولات شهية لذيذة على مدار اليوم وبكافة فصول السنة ومجهزة بوسائل التدفئة خلال فصل الشتاء والأيام الباردة .
     ما أن حلت الأحداث الأليمة على سوريا منذ حوالي عشر سنوات وأصبحت الغوطة الشرقية والعديد من المناطق المجاورة لقاسيون مسرحا لأعمال العنف ، حتى تحولت قمة الجبل إلى مركز للعمليات العسكرية وخلت من المتنزهين  وأصبح الهواء النقي اللطيف البرودة عابقا برائحة ولون دخان البارود ، وأصبح معظم ليل دمشق تغطيه العتمة ويخيم الظلام على قمة الجبل ، وبدلا من عيون العشق التي كانت تبحث عن معالم دمشق من مرتفعاته ، حلّت مناظير العداوة التي تبحث عن أهداف ومواقع الرمايات ، فكأن القدر يعيد نفسه بين قابيل وهابيل ، ويقتتل الأخوة مع بعضهم  ، ولكن كما تعلّم قابيل كيف يدفن أخاه فإن الشعب السوري يضمد جراحه ويدفن أحزانه متمسكا رغم الصعوبات والأحقاد بالأمل لصنع مستقبل حديث آمن ، ومن قاسيون هذا الجبل الشامخ الذي شهدت مرتفعاته أجمل ذكريات سكان دمشق على امتداد عمره الطويل و من قمته التي ترنو على دمشق بحنان وسفحه يحتضنها ويهدهد لها, نستذكر  صوت أغنية من أبيات قصيدة نسجتها مخيلة شاعرمرهف الأحاسيس منذ أواسط الستينات وشدت بها مطربة راحلة بصوت رائع ولحن عذب مشبع بنقاء مياه بردى يردد:
من قاسيون أطل يا وطني / فأرى دمشق تعانق السحبا
نيسان يدرج في مرابعه / والمجد ينثر فوقها الشهبا
أوسكرة للمجد في بردى / خلتْ على شفة الهوى حببا
أم أن سحراً مسها ويدا / ردتْ إليها القلب والعصبا
عجبا كأني الآن أعرفه /  شمماً كما يرضى العلا وصبا
لأكاد أسمع ألف هاتفة / جولان تلثم في العلا حلبا
وصدى البشير يهزني طربا / إنّا اعدنا القدس والنقبا
سوريةٌ عادت مطهرة / تاريخها بدمائنا كتبا


---------------------------






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  يكمن سر "القصص العظيمة" في عدم وجود أسرار فيها. "القصص العظيمة" هي القصص التي سمعتها وتريد الاستماع إليها مرة أخرى. تل...