السبت، 8 فبراير 2020





يا طيــــــــــــــــــر يا طايـــــــــــــــــــر

     عندما تشجو المطربه الرائعة فيروز بكلمات هذه الأغنية المؤثرة التي تعبر عن
الشوق والحنين للمكان والناس الذي عاش فيهما وبينهما الإنسان ، أسترجع في مخيلتي خلاللحظات شريطا طويلا عمره أكثر من خمسين سنة عندما سكنّا شبابا أنا و زوجتي أول مرة في شقتنا بحارة جناين الورد بحي القصاع ذو الأكثرية السكانية المسيحية في مدينة دمشق العظيمةأقدم عاصمة بالتاريخ .
        في طفرة البناء التي حدثت بمدينة دمشق خلال الأربعينات بالقرن الماضي
نشأ سوق القصاع الذي يمتد قريبا من جامع الثقفي في ساحة باب توما القديمة العريقة وشمالاحتى ساحة العباسيين الحالية . وعلى جانبيه قامت متاجر متلاصقة وبمساحات متقاربة ضمن عمارات حديثة روعي فيها إنسجامها مع الطابع العام للحي من حيث عدم تجاوزها لثلاثأدوار و وجود الشرفات المطلة على الشارع .
     إستقطب الحي و السوق منذ نشأته جميع سكان دمشق إذ عرف عن محلات الألبسة فيه أنهاتعرض أحدث أزياء الموضة في بيئة تعتبر الأكثرإنفتاحا على الحياة الإجتماعية من باقي الأحياء الأخرى ، خاصة أن العطلة الإسبوعية لمحلات السوق إختيارية حسب المعتقد الديني ،فيوم الجمعة حيث تغلق معظم الأسواق المعروفة بالعاصمة ، يغص السوق برواده إعتبارا منالعصر وحتى وقت إغلاقها حوالي الساعة العاشرة ليلا ، وبنفس الوقت فرغم إغلاق كثير من محلاته يوم الأحد إلا أن حوالي أكثر من نصف عددها تفتح أبوابها لإستقبال الزبائن ، وأيضافإن متاجر اليهود قبل مغادرتهم الكثيفة لم يكن إغلاقها يوم السبت يشكل فراغا بالسوق .
     الحركة النشيطة لسوق القصاع ليست بسبب رواد المحلات التجارية فقط ،بل لوجود عددمن المنشآت ذات الصلة بالحياة اليومية للناس ، فقبل أن تدخل السوق وعلى طرف أحد أفرع نهر بردى الذي يمر من ساحة باب توما ،تعلو مئذنة جامع الثقفي بجدرانه الحجرية المتوازية بالأبيض والأسود ،وما أن يدخل الزائر إلى السوق حتى يدهش بعدد لايحصى من المحلاتالتي تبيع شتى أنواع السلع التي يحتاجها المواطن لحياته اليومية، حيث تعبق رائحة تحميصوطحن البن لتحضير أفخر أنواع القهوة البرازيلية الطازجة التي يعشقها سكان دمشق ، وقريبامنه تعبق الروائح الشهية الأخرى، كتحميص مكسرات الفستق والبزر الأسود والأبيض ومخبوزات المناقيش والصفيحة وبجانبه محلات بيع ضيافة السكاكر والملبس ومحلات بيعوتفصيل الأحذية ، وتحضير العصائر الطازجة كالبرتقال والليمون والتمرهندي والسوس .وفي هذه الكثافة من تواجد المحلات تجد باب مغلق لايفتح إلا مساء وفوقه لوحة كبيرة كتبعليها " النــــادي العـــائلي "  ملتقى النخبة الراقية المميزة من فنانين ورجال أعمال وأعضاء السلك الدبلوماسي بأعوام الستينات والسبعينات حيث الخدمة والبرامج توازي أفضل الفنادق الأوربية.
    في المنتصف تقريبا يتقاطع سوق القصاع يمينا مع الشارع العريض القادم من الغوطة
الشرقية ويسارا مع ساحة - برج الروس -العريقة ثم لاتلبث أن تسمع أصوات أجراس كنيسة
الصليب للروم الأرثوذكس وقريبا منها كنيسة الروم الكاثوليك حيث لاتخلوا تلك الكنيستين من المناسبات الإجتماعية يوميا، وغير بعيد عنهما تقوم مستشفى القديــــس لــــويس المعروفة بـالمستشفى الفرنسي المميزة ببنائها التقليدي على غرار المشافي الفرنسية ، وقريب منها مشفى الزهراوي للتوليد والذي كان يسمى خلال الحرب العالمية الثانية بالمستشفى الإنكليزي .
     على جنبات السوق إقتطعت بعض الواجهات المنزلية أو المحلات التجارية وإفتتحت
المقاهي الحديثة مكانها، فتحولت الفسحة الأرضية لمدرسة اليونان إلى - كلاس إن كافييه-
وكذلك فرندة أحد المنازل الحجرية تحولت إلى كوفي شوب حديث – إل كافييه دي روما -
حيث يقع مقابلها - النادي الغساني - العريق ببنائه وأعمدته ودرجاته الرخامية ، وغيربعيد
كوفي شوب (joe,s cafe)وبقربه على إمتداد الشارع مقهى ومطعم  (Steed Caffe).
    يغص سوق القصاع وتفرعاته بالعديد من مكاتب المحامين وعيادات الأطباء ومخابر
التحليل والصيدليات والمطاعم والمخابز وحبوب البقوليات والمطاعم ، بالإضافة أنه ومنذ
الصباح الباكر يفترش الباعة الجوالين أية مساحة جانبية لبيع السلع الضرورية لحياة أهل الحي
من الخضار والألبان الطازجة .
  إذن نحن في جولة رائعة تجدها ممتعة بكل الأوقات فكأنك في مدينة سياحية متكاملة
الخدمات يسكنها شعب متآلف تشع المودة من وجه أبنائه، و تستقبلك صباحا أشعة الشمسالدافئة محملة بالهواء النقي القادم من الغوطة الشرقية ، ثم لاتلبث أن تصبح حارة جنوبا وسطكبد السماء في منتصف النهار ، ومع بداية الغروب تتلأ لأ الأنوار وتتهادى النسيمات اللطيفةالمنعشة مع خطى المتسوقين والمتسوقات والعائدين إلى بيوتهم .
     في هذا الحي الرائع وسوقه الرئيسي وبحارة جناين الورد وساكنيها ، عشت أكثرمن
خمسبن سنة مع أسرتي الصغيرة كافة فصول العمرفأصبح في ذاكرتي وكأنني أحد أشجاره
الخضراء التي تمتد أغصانها لبيوت أهل الحي ، فلا غرابة أن أشعر بغصة الفراق وعظيم
الشوق عندما تشدو فيروز بعميق صوتها :

يا طير وآخد معك لون الشجر
ما عاد في إلّا النطرة والضجر
بنطر بِعَيْن الشمس عَ برد الحجر
وملبّكة وإيد الفراق تهدّني
يا طيــــــــــــــــــــــــــــــر
وحياة ريشاتك وإيامي سَوَا
و حياة زهر الشوك و هبوب الهوا
ان كنّك لعندن رايح وجنّ الهوا
خدني ولنّو شي دقيقة وردّني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  يكمن سر "القصص العظيمة" في عدم وجود أسرار فيها. "القصص العظيمة" هي القصص التي سمعتها وتريد الاستماع إليها مرة أخرى. تل...