الجمعة، 4 سبتمبر 2020

     أيــــــام عــــالبــــــال

المشوار من الجامعة حتى جسر فكتوريا

             خلال فترة الدراسة الجامعية أوائل عام 1960 وعندما كان أكثر من نصف الشعب السوري الحالي لم يولد بعد ، كانت دمشق تحاول أن تتأقلم مع كونها لم تعد عاصمة الجمهورية السورية ، بل أصبحت عاصمة الإقليم الشمالي فقط ، ولم تعد تستقطب العمل الدبلوماسي وأصبحت السفارات عبارة عن قنصليات تتابع الشؤون المدنية لا السياسية ، لأن مدينة القاهرة الآن هي العاصمة للجمهورية العربية المتحدة الناشئة  .

بدأ يخيم على دمشق الياسمين جوا من الرتابة و السكينة و الإمتثال للواقع  ،بدا ذلك بتلاشي أهمية بعض المقاهي التي كانت ملتقى القوى السياسية والحزبية مثل مقهى الهافانا الذي يقابله مقهى البرازيل في شارع بور سعيد،أو كمقهى الروضة بشارع العابد حيث كان ملتقى نواب البرلمان، وحل بدلا عنها اللقاءات في مقاهي التسلية مثل مقهى الصّفى والفنادق المتوسطة بمنطقة البحصة القريبة من ساحة المرجة التي كانت تعتبر بمثابة مركز المدينة

      لم أكن من رواد المقاهي لذا كنت في المساء وبعد إنتهاء المحاضرات أذهب أحيانا في مشوار هادئ ، من الجامعة حتى جسر فكتوريا حيث أقضي بعض الوقت الذي يبعث النشاط والحيوية للعودة بعدها لمتابعة الدراسة .

كنت أنطلق من البهو الواسع لمدخل كلية الحقوق حيث مباني الجامعة التقليدية العريقة القريبة من حي الحلبوني ( البرامكة حاليا )، وأجتاز الشارع للجهة المقابلة حيث مبنى مكاتب شؤون الطلاب ، وبعده الباب الحديدي الكبير لمشفى الجامعة ، حيث يتدرب في أجنحته طلاب كلية الطب ، وأمشي الهوينا على الرصيف العريض  بمحاذاة الجدران الحجرية لمباني رئاسة الجامعة و مشافيها،وصولا لسوق الحلبوني المزدحم بمحلات القرطاسية وعرض الكتب التراثية ، حتى أصل لساحة محطة الحجاز ، حيث المبنى التاريخي للمحطة بطرازه المعماري المميز، ومن ثم أتجه  يسارا في الشارع العريض حيث يرتفع  في زاويتة أفخم فنادق دمشق بتلك الأيام - أوتيل أوريان بالاس (فندق قصر الشرق) ذو الواجهة الحجرية البيضاء وملتقى رجال السياسة والأعمال ، بعد أن أكون قد أمليت نظري بواجهة محل حلويات الأمراء .

 وفي أول هذا الشارع تقع سينما شعبية يرتادها الصغار غالبا لكونها تعرض أفلام المغامرات مثل طرزان وزورو ، وبعدها قد أرتقي درجات مبنى البريد المركزي المهيب لأرمي رسالة لأهلي في الصندوق الكبير الأحمر المعلق على الحائط وبجانبه هاتف للعموم يعمل بالقطع المعدنية . ومقابل المبنى في الجهة الأخرى من الشارع تلفت النظر اللوحة الكبيرة المضاءة ل "ملهى الكروان " وبجانبه العديد من مكاتب السفريات وعدد من المكتبات والصيدليات .

وما أن أتجاوز مبنى البريد حتى أصل إلى صالة سينما العباسية الحديثة بالطابق الأرضي وهي تشع بالأنوار والإضاءات وبوسترات دعاية الأفلام و غالبيتها أفلام عربية من أبطال السينما والغناء كفريد الأطرش وفاتن حمامه وعبدالحليم حافظ وعمر الشريف وفريد شوقي وغيرهم من نجوم تلك الأيام الذين لم يتكرروا حتى الآن.

 وعند نهاية الشارع أصل لجسر فكتوريا وذلك قبل سقف مجرى نهر بردى ، وبجانبه بالركن فندق سميراميس الضخم وقريبا منه صالة سينما دمشق ذات الطابقين التي تعرض هي الأخرى الأفلام العربية الشهيرة ، وبجانب مدخلها محل صغير لبيع الإسطوانات والمجلات الأجنبية وعلى واحهته الصورة الشهيرة لكلب يستمع وعبارة "صوت سيده " وبالجانب الآخر للسينما  "فندق قطان " الحديث والفخم ، وغير بعيد يقبع المبنى التاريخي الرائع لوزارة المعارف السورية .

وكثيرا ما كنت أسير حتى منتصف الرصيف المقام على نهر بردى وأقف متجها نحو الغرب متأملا مجرى نهر بردى بمحاذاة  شارع بيروت وصولا حتى الربوة ، وبالخلف حيث المباني الحكومية التراثية المطلة على نهر بردى وحتى النصب التذكاري لساحة المرجة .

وعندما أهم بالرجوع إلى المنزل كنت غالبا أذهب لموقف الباصات الرئيسي غير البعيد في شارع النصر ، حيث أختار باص " ميدان - بوابة " ليوصلني موقف الشويكة.

واليوم بعد مرور 60 سنة عندما أستذكر ذلك المشوار وتلك الأيام ، أشعر وكأنني أبحث عن قمر مفقود في شوارع معتمة ، وأناجي نفسي و أتسائل أين أنت ياقمر السماء المفقود ؟

لمن تقدم الآن الأشعة التي كنا نستضيئ بها والتي كانت تغسل وجوهنا بضوء الياقوت؟ أفتقدك وكأنه لا يوجد غدًا في سماء لا تكون فيها.

  والنجوم حتى الجميلة ، لا يمكن أن تمحو الحاجة لرؤية نورك

ارجع لي ، حتى لو كبرت بالسن ،ارجع لي ، حتى لو فات الأوان سأكون في انتظارك هنا عيناي تتجهان دائما نحو السماء وفمي لن يتعب من استدعائك.

محســـــن القطمه  مسيسياغا / تورنتو  4/ 9 / 2020







  يكمن سر "القصص العظيمة" في عدم وجود أسرار فيها. "القصص العظيمة" هي القصص التي سمعتها وتريد الاستماع إليها مرة أخرى. تل...