الجمعة، 24 يناير 2020


شرفـــــــــــة الياسميــــــــــــــــــــن
سيــــــــــــــــــران الغـــــوطــــــــــــــــــة

     تبدأ تباشير الربيع في دمشق غالبا منذ أوائل شهر آذار( مارس ) مع إنحسار البرد القارس الذي كان سائدا، ويبدو ذلك بالشمس الدافئة نهارا وبدء إخضرار أغصان أشجار الشوارع وشتلات الزريعة المنزلية مما يعطي بهجة للناظرين ونشاطا في حركة المارة .يتجلى ربيع دمشق خصوصا في سهول الغوطة الواسعة التي تحيط بها شرقا وجنوبا وغربا حيث تكسو الأشجارخضرة رائعة تزينها أزهارالثمارالمتنوعة التي توشك على النضج تزامنا مع إرتفاع حرارة الشمس كلما إقترب الربيع من الصيف .
      تعتبرنزهة أو " ســـيران الغوطة " يوم الجمعة تقليدا راسخا لدى سكان دمشق في سنوات السبعينات وحتى أواسط التسعينات ، فما يكاد يحل ضحى يوم الجمعة إلا وتدب الحركة في معظم أحياء دمشق القريبة من شرق المدينة مثل حي الميدان وباب مصلى وباب شرقي وباب توما والقصاع ومنطقة العباسيين ، وذلك إستعدادا للسيران في بساتين الغوطة الشرقية المثمرة التي تغطيها شمس آذارالدافئة والممتدة بين منطقة المليحة وجوبر وحتى أطراف زملكا وعربين ووصولا لبحيرة العتـيـبـية مصب نهر بردى .
     في الشارع الضيق القائم وسط صفوف الأشجار الخضراء والبساتين التي تفتحت أزهارها قريبا من باب شرقي يلاحظ منذ الضحى تكاثر وإزداد حركة المرور بمختلف وسائط النقل ، سواء كانت سيارات أوشاحنات صغيرة كورية الصنع أوباصات نقل الركاب أوفانات بل وعربات خشبية تجرها الخيول ومشاة من الشباب والجميع يشكل رتلا متلاصقا يتقدم بطيئا نحومنطقة المقاهي والمطاعم الواسعة المشجرة غير المسقوفة أوالبساتين العديدة المنتشرة في أطراف أوعمق الغوطة ، ويشكل خليطا من كافة الأعمار والفئات الإجتماعية ، وخلال هذه المسيرة تصدح العديد من السيارات أوالشاحنات المكشوفة بأصوات الأغاني منطلقة من أجهزة الراديو والمسجلات أوبغناء بعض المجموعات على إيقاع الطبل أو الدربكة وتصفيق الأكف ، ويسود جميع الوجوه بشاشة واضحة وإستعدادا لتقبل المرح .
     ومع إقتراب ساعات الظهيرة تتلاشى زحمة المرور وتستقر العديد من الأسر القادمة في مساحات خضراء بجانب أوفي قلب البساتين ، وتفرش الأرض بمدات من الحصر أو البسط أوالحرامات وبعض الكراسي الخشبية ، وتبدأ النساء في حركة نشطة لإعداد سفرة الغداء ،وتخرج أدوات المطبخ المتنقلة من سكاكين وملاعق ودفات خشبية لتقطيع الخضار واللحوم و تحضير التبولة والسلطات والكبة النية والحمص بالطحينة والفول المدمس . بينما يكون الرجال غالبا يحتسون الشاي ويدخنون السجائر والبعض منهم أحضر معه عدة الأركيلة ليدخن التنباك أوالمعسل ، والبعض الآخر منهم عمد لتجهيز النارمن أجل شواء اللحم ، إما بمنقل جلبه معه ، أو صنع من الأحجار موقدا لشواء أسياخ اللحم الضاني التي لاتلبث أن تتصاعد منها دخان الشواء عندما تطرطش الدهون بالنار الملتهبة في منقل أو موقد الشواء .
وإذا تسنى لك المرور بجانب التجمعات الأسرية التي إتخذت من أرض البستان محلا لقضاء النزهة وقت الطعام فسوف تجد نفسك وكأنك تشاركهم طعامهم الذين يقبلون عليه بشهية واضحة حيث ترى الأصابع تغمس قطع الخبز الطازج في الصحون المنبسطة على الأرض ،فهنا جاط كبير من التبولة أو الفتوش أو السلطة وبحانبه صحن فيه تلة عالية من الكبة النيئة وآخرمن الحمص المسبحة أوالمتبل أوبعض المقالي من بطاطا وباذنجان وكوسا أوأسياخ لحم الضأن المشوية ، وإذا رآك رب الأسرة مارا فسوف يدعوك للمشاركة بعبارة " تفضل " .
    أما في المقاهي والمطاعم الواسعة فالحركة على أشدها من طاقم الخدمات لتلبية طلبات الزبائن بسرعة دون نسيان أي صنف ، ومعظم الوجبات المرغوبة تتألف من شواء لحوم الكباب أو الشقف والدجاج بجانبها شرحات البصل المحمرة والمقبلات من السلطات والحمص والمحمرة ولابأس من زجاحة مشروب كحول العرق أو النبيذ والأسعار تعتبر مقبولة في مقاييس تلك الفترة .
       وما تكاد الشمس تقترب من المغيب حتى تبدأ حركة المرور المعاكسة بإتجاه المدينة ، الوجوه يكسوها الوجوم لإنقضاء هذا اليوم ، وإذا كان الركب الصباحي يعكس شروق الشمس ومايبثه من أمل فإن غروب الشمس الذي يرافق العودة يعطي شعورا بالإحباط والرجوع لدائرة الحياة الجدية ومعاناتها  
     مع تسارع إنتشار المنتزهات والمقاهي والمطاعم الكبيرة والملاهي على أطراف العاصمة وخاصة طريق المطار ، وشق الشوارع العريضة وبناء المساكن و المصانع ومكاتب الشحن والمستودعات التجارية بقلب البساتين ، تلاشت نزهات الغوطة وأضحى طريقها الضيق - الذي كانت تصطف على جانبيه الأشجار المثمرة من الجانيرك والخوخ والدراق واللوز وغيرها- شارعا عريضا ذو إتجاهين وعلى جانب الأرصفة الإسمنتية ، مصانع الكبريت ومصابغ النسيج ومكاتب الشحن ومخازن السلع والأقمشة وبعض البساتين الصغيرة المهملة تتمايل فيها أشجار شبه عارية يكسوها الغباروتتدلى وريقاتها كأنها دموع تبكي على ماض جميل مزقته نفس الأيادي التي كانت تصفق مبتهجة وشتمته نفس الأصوات التي كانت تغني سعادة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  يكمن سر "القصص العظيمة" في عدم وجود أسرار فيها. "القصص العظيمة" هي القصص التي سمعتها وتريد الاستماع إليها مرة أخرى. تل...