الاثنين، 20 يناير 2020



 مــــــــن الــــــــــــذاكـــــــــرة

مشـــوار التعليــم بيــن البيــت والمدرســة الثانويــــة

        بعد نيلي الشهادة الإبتدائية دخلت المدرسة الإعدادية في مبنى ثانوية إبن رشد بأوائل الخمسينات ، وكغيري من الطلاب كان عليّ يوميا القيام بمشوارالذهاب من البيت  للمدرسة مشيا على الأقدام والعودة بنفس الطريقة بعد إنتهاء الدوام ، وإستمرت هذه الحالة حتى نيلي الشهادة الثانوية في دورة 58 / 59. ولهذه المدرسة العريقة مبنى ضخم مهيب تم تصميمه على غرارمدرسة التجهيزأو جودة الهاشمي في العاصمة دمشق ، بل ويصلح كبناء كلية بإحدى الجامعات ، ويقع في منطقة هامة وملتقى عدة طرق ، قريبا من حي المدينة القديم والتاريخي المتصل بشارع أبي الفداء، ومن نزلة الدباغة حيث سوق المكتبات العديدة وصولا لمركز المدينة في ساحة العاصي ، ومن نزلة شارع المحطة المؤدي لساحة المغيلة .
    الوصول من بيتنا في حارة "بيت الحوراني " أول طلعة المحطة إلى مدرستي بثانوية إبن رشد يحتاج لوقت طويل سيرا على الأقدام حيث لم توتضع باصات النقل الداخلي بالخدمة في ذلك الوقت بل حتى عام 1957 لذلك لابد من اللجوء إلى الطرقات الداخلية بين الأحياء التي تختصرالمسافة للوصول بالوقت المحدد لدخول الطلاب للمدرسة حيث يغلق الباب الرئيسي في الساعة الثامنة بالضبط .    
    كنت أهرع من بيتنا بإتجاه الشارع الطويل المؤدي للأحياء المرتفعة والذي يطل من جانبه الأيمن على الأحياء المنخفضة المجاورة مثل حارة الجسر والبرازية ، وعلى جانبه الأيسر بيوت غالبيتها جدران حجرية عالية ومؤلفة من عدة طوابق لها شرفات مسورة بقضبان الحديد وبعضها لها مداخل بعدة درجات وأصحاب هذه البيوت من العائلات المشهورة والميسورة أهمها عمارات آل البرازي ، والطبيب شكري لطفي ومنزل الرئيس السوري الأسبق أديب الشيشكلي وأخيه صلاح الشيشكلي وبيت أنسباء الرئيس السوري السابق اللواء فوزي سلو ،وبعدها بيوت العائلات المتوسطة مثل عمارة بيت الحلبي التي يسكن ضمن طوابقها أحد أبناء عمومتي ، وبوصولي لهذا البناء أكون قد أنهيت السير بالشارع المرتفع لأبدأ بالشارع الذي يتدرج نزولا من خمارة نعمة وحتى سوق الشجرة . وهوشارع حيوي بقلب حي غالبيته من الأخوة المسيحين ويسمى "حي الشيخ عنبر" وفيه مدرسة وكنيسه للسريان الأرثوذكس .
      من ساحة سوق الشجرة غير بعيد عن الخان والجامع الأثري العريق، أدلف يسارا إلى شارع ضيق بعد إجتيازي عدة محلات  من البقالة وباعة الحبوب الفوكه والخضراوات، وهذا الشارع يخترق حي "العاقبة " الذي يضم عدة عائلات مسيحية متجاورة مع العائلات الإسلامية وبعد ذلك ينفرج الشارع بالوصول لحي الحوارنة الذي يخترقه الشارع الرئيسي القادم من دوار المحطة و"نزلة جزدان " وفيه مبنى المستوصف الحكومي المجاني ، وقبالته ملعب كرة القدم بساحة المغيلة وغير بعيد منه يظهرالحائط الخلفي العالي لمبنى ثانوية إبن رشد ، فأسارع الخطى على رصيف الشارع العريض الذي يتحول إسبوعيا إلى " سوق الخميس " لأصل قبل أن يسبقني وقت إغلاق باب المدرسة .
    يغلب على طلاب الصفوف الثانوية بالمدرسة العنفوان بل بعضهم كان يتنمر على زملائه، وكذلك الإشتغال بالسياسة والإنتماء إلى الأحزاب الإشتراكية والدينية ، وكثيرا ماتقع مشاحنات وصدامات بين هذه الفئات ، وخلال الفرصة بين الدروس كانت تحدث التجمعات والنقاشات العديدة في الباحة الواسعة بين الطلاب ، والبعض منهم يهرع إلى "الندوة " على غرار الكوفي شوب حيث يتناولون السندويش أوأقراص العجوة والشاي وآخرون يلعبون كرة الطاولة (البينغ بونغ ) ومنهم يختارمكان بعيد يتعاطى تدخين السكائر التي كانت محظورة كليا، بل البعض يقفزمن الحائط ويهرب من المدرسة .
       مشوار العودة عصرا أوقرب المساء لايتم على نفس طريق الصباح ، حيث تنتفي الحاجة للوصول مبكرا، ويصبح لدى الطالب متسعا من الوقت لشراء بعض المستلزمات من المكتبات أو التلهي على أبواب صالات السينما التي كانت مرغوبة جدا في حينه ، وكنت في كثير من الأحيان أخرج من باب الثانوية لأدخل من آخر سوق الطويل مرورا بسوق الحدادين وسوق جلباب لأصل دكان والدي حيث ألاحظ وقد أصابه الملل ويقضي الوقت بدكان أخيه يتحادث معه أومع أحد من أبنائه .  
    وفي بعض الأوقات غير القليلة كنت أرجع بنفس الطريق الصباحي أوتعديلات طفيفة فيه ، ولكن طريق العودة يحمل مشقة أكثرلما يتطلبه من صعود طلعة حي الشيخ عنبر ومنها للأحياء المرتفعة لفترة غير وجيزة ، ومانكاد نصل أخر الطلعة حتى نشعر بالحركة النشيطة بجانب محلات بيع الخمور القليلة حيث يبدأ شراء بطحات "العرق " ولوازم طاولة السهرمن مأكولات ومكسرات ، ولاألبث أن أشم الرائحة النفاذة الصادرة عن مواد ورشة طباعة النسيج الموازية للطريق العالي ،و بعد إجتياز هذه المنطقة أصل لشارع عريض يؤدي من اليمين  إلى شارع المحطة قريبا من بيت المحافظ ولكن غالبا كنت أسلك الزقاق الرئيسي بين البيوت السكنية وصولا لمساكن بيت الحوراني حيث أصبحت قربيا جدا من بيتنا .    
     كانت آخر مشاويري في هذا الطريق ربيع عام 1959(أيام الوحدة ) حيث تقدمت لإمتحانات الشهادة الثانوية العامة إذ بعد نجاحي بتلك الشهادة ،غادرت مدينة حماه إثر دخولي كلية التجارة بجامعة دمشق بنفس ذلك العام . وهكذا وبعد إنقضاء أكثر من 60 عاما على تلك الفترة من العمر فلازالت ذكريات مدرسة ثانوية إبن رشد العريقة ( التي صارت تسمى ثانوية السيدة عائشة حاليا ) تشدني إليها بشغف ، سواء من الشخصيات البارزة التي تولت إدارة المدرسة حيث كان المدير شبيه العميد والمدرس أستاذ بروفيسور، لهما هيبة وإحترام وسلوك حازم ومهذب ، أومن الطلاب على إختلاف مشاربهم الذين دخل الكثير منهم معترك الحياة الإدارية والمهنية والسياسية ، أتذكر تلك الفترة حيث كانت المشاوير اليومية من البيت للثانوية والعودة سواء تحت هطول الأمطار الغزيرة أوأشعة الشمس الدافئة أحيانا والقائظة أحيانا أخرى ، إلا أنها كانت مفعمة بالحماس والنشاط فقد كنت كما شباب تلك الأيام نقرع باب المستقبل الواعد بحماس وثقة غير دارين عن خيبات الأمل  والأحداث الجسام التي تنتظر ذلك المستقبل المريروالأليم سواء لمدينة حماه أو لبلدنا الغالي سوريا.

  محســــــــــــــــن القطمــــــــــــــــه - مسيسياغا - تورنتو- كندا تاريخ 15 / 08 / 2019




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  يكمن سر "القصص العظيمة" في عدم وجود أسرار فيها. "القصص العظيمة" هي القصص التي سمعتها وتريد الاستماع إليها مرة أخرى. تل...