الاثنين، 9 سبتمبر 2019




مـــن الــــــذاكــــرة

دارنــــــــــا مهـــــــــد الطفولة والصبـــــــــا

      بالرغم أني تجاوزت الثمانين من العمر فلا زالت ذاكرتي تحفظ أدق التفاصيل والأحداث عن دارنا التي ولدت وعشت فيها ردحا من الزمن منذ يوم مولدي ونشأتي وحتى أوائل خمسينات القرن الماضي ، دارنا التي لازالت قائمة حتى الآن بحارة بيت الحوراني بطلعة المحطة في مدينة حماه السورية العريقة ، فرغم تعدد الأجيال والتغيرات التي حدثت بهيكلها وتوزيعها بقيت محلا لتراكم ذكريات لايمكن أن يمحوها الزمن . لم تكن دارنا شقة أو بيت  صغير ، بل كانت دارعربية رحبة فيها ثلاث غرف واسعة وأسقف عالية ومطبخ بسقيفة خشبية ، وهذه الغرف بنيت على أطراف أرض دار فسيحة مبلطة تفصل غرفة المعيشة والمطبخ الملاصقان لباب الدارعن غرفة الضيوف وغرفة الوالدين والأطفال . 
           بجانب أرض الداروبموازاة الحائط كانت تمتد حديقة رائعة زرعت على طرفيها شجيرات متعددة ، فهنا الليمونة وفي الوسط النارنجة وبعدها الرمانة ويفصل بينهما شجرة الياسمين يفوح من زهرها الأبيض رائحة منعشة ، يلاصقها شجرة ياسمينة عراتليه ، وبين هذه الشجرات تشرئب أغصان الورود ذات الألوان والروائح المعطرة ، وفي وسطها العديد من شتلات الزريعة كالمنثور وأبوتم والقرنفل بجانب تنكة الفللة الفواحة. ومن أعلى الحائط الإسمنتي الذي يفصل دارنا عن دار بيت عمي اللتان كانتا دارواحدة، تطل علينا شجرة التين الملاصقة لعريشة العنب  وبفضل الفسحة السماوية وعدم وجود أبنية إسمنتية عالية بجانبنا ، فقد كانت الحديقة أول من تستقبل  نورالشمس ودفئها صباحا وتبعتد عنها وقت الظهيرة بما يزيد من رونق جمالها ورائحة أزهارها وتربتها
             ومابين حائط بيت عمي والجنينة تمتد باحة واسعة غطي القسم الأكبرمنها ببلاط جميل منقوش بالأسود والرمادي  هي أرض الدارالواسعة المكشوفة للسماء وأشعة الشمس والهواء النقي ، والتي لم يبق منها اليوم سوى بضعة أمتار ، لوأتيح لبلاطها المنزوع من مكانه أن يتكلم لحكى قصص لاتنتهي عن حياة كل فرد من أسرتنا بل أيضا عن نساء الجيران في زقاق بيتنا . لم تكن أرض الدار الواسعة مرتعا للعب وتراكض الأشقاء الصغار فقط ،بل كانت المكان المفضل لكثير من الأعمال المنزلية الهامة ،كنشر الغسيل. وتهيئة مستلزمات المؤونة لفصل الشتاء ، كتحضيرالقمح  والبرغل ، والطحين والعدس والفريكة ، وتيبيس الخضار مثل الباذنجان والكوسا والفاصوليا
               ساعد تصميم دارنا على خلق نوع من الحركة الدائبة ، فنشأ إرتباط عفوي بين تفاصيل حياتنا اليومية وتطورها خلال فصول السنة بفعل الزمن والمراحل العمرية والدراسية وأدق تفاصيل الدار ، والتي تمركزت على قلبها المتمثل بالوالدة الأم . 
              لكن العلاقات الأسرية المميزة التي تفاعلت مع تصميم البيت كان لها أن تبدأ في التغييربعد تجاوزنا جميعا مرحلة الطفولة وميل معظمنا نحوالخصوصية وترافق ذلك بخيبات في تجارة الوالد بدكان سوق الطويل وضيق ذات اليد ، فإتخذ قراره عام 1954 بتسليم الدكان والإستفادة من مبلغ الفروغ ببناء غرفة بالبيت ، لزواج الشقيق الكبير ، والمكان المفضل لمثل هذه الغرفة هو موقع الجنينة التي تم إجتثاث أشجارها الباسقة وشتلاتها الخضراء المليئة بأنوع مختلف الأزهار ماعدا بضعة شقوف من زهرة الفللة والورد الجوري ، وبني مكانهاغرفة إسمنتية واسعة وصالة صغيرة ملاصقة لها " .
      وتلاحقت الأحداث بعد ذلك بسرعة حيث تزوج شقيقاي ، وكذلك شقيقتنا التي غادرتنا للسكن مع زوجها، وفي أواخر سنة 1958غادرت أنا أيضا البيت بسبب دخولي الجامعة وإنتقلت للعيش بدمشق عند أخي ، ولم يلبث أن سافر شقيقي الأصغرمني إلى النمسا للدارسة عام 1962 (كما أتذكر ) وفي عام 1963 توفي الوالد رحمه الله الذي كان ركن الدارومحورالأسرة ، و فقدت الدارهيبة مركزها  ورونقها وروحها وخاصة بعد الإتفاق بين أخوي الكبيرين على تقاسم البيت بينهما بعد مخالصة الحصص من الأخوة والأخوات، وتبع ذلك شق البيت بجدارإسمنتي طولي بغية إعطاء إستقلالية تامة لكل من الأخوين الكبيرين ، الذي كان بداية لتقطيع البيت القديم وإضافة غرف وسلالم لسكن وتزويج الأولاد الشباب .
وبوفاة الوالدة عام 1986 فقدت الدارروحها وملهمتها والحضن الحنون في غرفتها الصغيرة الإسمنتية ،الذي كنت ألجأ إليه خلال زيارتي لبيتنا بحماه ، وصرت كلما زرت بيت أحد إخوتي أشعر بغصة عندما لاأجد مايذكرني بمهد الطفولة والصبا سوى البوابة العريضة أوبضعة بلاطات قديمة كثيرا ما داست أقدامنا الصغيرة عليها ، فتختنق العبرات في حلقي وأنا أتذكر صوت الوالدة الحنون ، أو صوت الوالد يهدرمهددا متوعدا إن خالفناه ، أوصوت الشقيقة يصدح بأغنية لفيروز وأقول بنفسي " وينن "؟ أين من عاشوا بهذه الدارومشوا على بلاطها وناموا بغرفها بإطمئنان نعم ذهبوا جميعا وبقي أولادهم وأحفادهم فهذه سنة الحياة ..


محسن القطمه      مسيسياغا – تورنتو السبت بتاريخ 27/04/ 2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  يكمن سر "القصص العظيمة" في عدم وجود أسرار فيها. "القصص العظيمة" هي القصص التي سمعتها وتريد الاستماع إليها مرة أخرى. تل...