الأربعاء، 14 أغسطس 2019


أيــــام عالبـــــال

بيـــن مبنى الجامعة وحارة الشربيشات

       في أول ستينات القرن الماضي كنت طالبا في كلية التجارة بجامعة دمشق و المحاضرات تجري عادة في القاعات القديمة لكلية الحقوق بواجهتها التقليدية ، أو في الطابق الأرضي للمبنى الحديث لمكتبة الجامعة جانب الحديقة التي تظللها الأشجار الباسقة دائمة الخضرة ، حيث يتمشّى الطلاب يتداولون فيه الأحاديث والتعليقات وأيضا مكانا لعروض أحدث أزياء الطالبات الجميلات لأن الحجاب لم يكن شائعا في حينها.
     كنت أسكن في حي الشربيشات الشعبي الدمشقي العريق ، بمنزل أخي عبد الحكيم الأكبر مني سنا رحمه الله ، وكنت في بداية مشوار بناء المستقبل متحمسا للمواظبة على دوام كافة المحاضرات فكنت أنطلق باكرا مسرعا من البيت نحو الشارع العام لأستقل الباص القادم من الميدان – بوابة المكتظ بالركاب وأصعده بصعوبة وخلال 10 دقائق تقريبا يقف مقابل المفرق الموصل لطريق الجامعة ، حيث أمشي من هناك بسرعة فائقة لأصل غالبا بالوقت المحدد لبدء المحاضرات الصباحية.
              مابين المحاضرات كان يتجمع على الرصيف بجانب المكتبة نخبة من طالبات الكلية الحسناوات وهن يرتدين أحدث أزياء موضة تلك الأيام بفساتين قصيرة وتسريحات شعر على غرار مذيعات التلفزيون ومن يضع حجابا من الفتيات القليلات يكشفن عن جزء شعرهن ، وبنفس الوقت يتجمهر أيضا عددا من الطلاب بأناقة مميزة من اللباس وتسريحات الشعروهم يتقربون من زميلاتهم ، وكان واضحا رغبة الطرفين بالتعارف وإظهار اللباقة والأناقة مرفقة بالإبتسامات والضحكات الخفيفة للفت الإنتباه ، ونظرا لحداثة إنشاء كلية التجارة بالمقارنة مع الكليات العريقة مثل كلية الحقوق والآداب القريبة من مبنى المكتبة ، فقد كان منظر تجمع طلاب كلية التجارة بحسناوات طالباتها ووسامة طلابها يجذب كثير من طلاب الكليات القريبة للمشي والوقوف بجانب تجمعاتنا .

   عند العودة للبيت كنت أقصد نفس الطريق أوبتغيير بسيط ، منطلقا من باب الجامعة الحديدي الرئيسي نحو الشارع الذي يتوسط حارة الحلبوني  لأصل سكة القطار مقابل مغاسل السيارات وقريبا من فوج الإطفاء ، حيث أقف بجانب لوحة موقف الباص الذي يصل أقل إكتظاظا من الصباح  فأصعد مسرعا وقد يتسنى لي فراغ أحد المقاعد ، فأجلس أمضي الوقت بالنظر يمينا حتى أسمع صوت جابي الباص يقول " شويكه " حيث أنزل مسرعا .
   في أحيان كثيرة وعند تأخر وصول الباص وخاصة بالفترة المسائية فكنت أجد السير مشيا على الأقدام مختصرا بعض المسافات مارا بالقرب من سوق زقاق الجن والفحامة وصولا لموقف الشويكة أول دخلة الشربيشات فالشارع الضيق المعبد بين الجدران الطينية غير بعيد عن المنزل  الذي أصعد إلى غرفه ببضع درجات خشبية .
    وبعد مايزيد عن أربعين عاما على تلك الأيام وكلما كنت أقطع الطريق بسيارتي البيجوالكرزية اللون من دوار زقاق الجن بإتجاه بوابة الميدان أحاول جاهدا أن ألمح ما يذكرني بتلك الأيام فلا أجد سوى محلات معظمها لقطع الغيار بل أكاد أضيع مع إزدحام السيارات والأنفاق وجسرالمشاة وأبدا لم أعد أرى موقف الشويكة ودخلة الشريبيشات وشوارع معبدة ضيقة بقلب الزقاقات الطينية ، بل أبنية طابقية إسمنتية  ولا أثرلأمثال دكان اللحام أبوقاسم  ولا الدكنجي أبومحمد .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  يكمن سر "القصص العظيمة" في عدم وجود أسرار فيها. "القصص العظيمة" هي القصص التي سمعتها وتريد الاستماع إليها مرة أخرى. تل...