السبت، 19 سبتمبر 2020

         

     أيـــــــــــــام عالبــــــــــــــال          

مشــــــوار بوابـــــة الصالحيــــــــــــة

 

                في أول سبعينات القرن الماضي ، كنت بالإضافة لوظيفتي في المؤسسة الإستهلاكية بدمشق ، أعمل محاسبا في أحد مكاتب السياحة والسفر في ساحة يوسف العظمة ، لمدة ساعتين يوميا بالفترة المسائية . يقع هذا المكتب في الطابق الأرضي لمبنى مديرية الصناعة ، وبالتالي كان على بعد عدة خطوات من مدخل بوابة الصالحية التي تبدأ يسارا من محل وكالة ساعات أوميغا وحتى مبنى البرلمان والحديقة المحيطة به التي تتقاطع مع شارع العابد القادم من ساحة السبع بحرات .

             هي مسافة قصيرة تتلاصق فيها المحلات التجارية ويتزاحم المشاة رجالا ونساء وغالبيتهم بسن الشباب يمشون ببطئ وهم يتطلعون على واجهات المحلات التجارية التي تبيع تشكيلة واسعة ومتنوعة من البضائع وخاصة الأزياء الرجالية ، مثل معارض آسيا ومارينا ، أو الأحذية كمحل "سمرجيان " أو أطقم المالقي للموائد في محل دباس والإسطوانات التقليدية للموسيقى والسنفونيات الكلاسكية في محل شاهين

             مع إقتراب الساعة السابعة مساء تزدحم مداخل دور السينما العريقة الكائنة بالبوابة ، فهذه سينما الزهراء الحديثة تعرض أحدث الأفلام الأجنبية والعربية كذهب مع الريح من بطولة كلارك غيبل ،وتحتها سينما ومسرح ومكتبة الحمراء ، وبالجهة المقابلة سينما أمير تعرض فيلم  " أطول يوم بالتاريخ " يضم معظم نجوم هوليود .بالإضافة للنوادي الليلية مثل  الكازا والحصان الأبيض .

            قبل دخولك صالة السينما سواء بحفلة المتينيه الساعة 7مساء أو حفلة سواريه الساعة 9 ليلا قد تمرّ على محل بيع الموالح اللذيذة الساخنة شتاء أو تذهب مقابله لتتناول قطعة من أطيب"هريسة " بالعالم من دكان البروكي الصغيرة .قد تفاجئ أحيانا وأنت تتمشى وقت الغروب ببعض الإزدحام بسبب إنفضاض إجتماع النواب من مبنى البرلمان ، أو كثرة الدخول لمبنى نادي الضباط بجانبه .

             وهنا تجد نفسك في مفترق طرق مذهل ، فلو تابعت المسير ستصل حتى الجسر الأبيض والعفيف حيث السفارة الفرنسية مرورا بشارع الصالحية وعرنوس ، ويسارا الحارات الصغيرة ذات الطابع الباريسي حيث ساحة النجمة والفرنسيسكان ، والشعلان ، وزقاق الصخر .

                أما لو إتجهت يمينا فشارع العابد حيث مقهى الروضة وبجانبه باعة الجرائد والمجلات بما فيها الأجنبية ، وبعض محلات المجوهرات والمفروشات والأدوات المنزلية ،وكثير من محلات الأقفال ولوازم الأبواب .ويتفرع من جانبيه شوارع ضيقة مزدحمة فيها بعض الخمّارات البسيطة الهادئة ومن أشهرها " خمارة أبومعروف " ملتقى العديد من الشعراء والفنانيين والأدباء والسياسيين ، والأزقة الضيقة التي تتراصف فيها مطاعم السندويش والشاورما والعصائر وصولا لشارع بورسعيد وسينما السفراء والمركز الثقافي السوفيتي..

              قد يتسائل المرء أي من شوارع العالم تشبه هذه المنطقة بمساحتها الصغيرة ومعالمها الثرية ، شانزلزيه باريس أوأكسفورد لندن أم سيكما أثينا ، بالحقيقة هي حالة إختصت بها هذه البقعة من دمشق دون عواصم العالم ،حيث تتلاصق المحلات التجارية التي تعرض أصنافا مذهلة في تنوعها وتتداخل مع الشوارع الضيقة والبيوت السكنية و الجوامع وتتعانق بحميمية مع الأغصان المحملة بزهر الياسمين ، بمنظر ساحر متفرد وحركة دائبة آمنة على مدار الساعة  .

              والآن وبعد مضيّ حوالي 50 سنة من العمر ، تجدني أفتقد تلك الأيام ، والحركات الصغيرة خلال مشوار البوابة ، كنقرشة الفستق الدافئ من محل الموالح ، وحلاوة صحن هريسة البروكي ،وبوسترات أفلام سينما الزهراء ،وأرفف مكتبة الحمراء ، ورائحة كعك أبو محجوب ،ودخان تنباك أراكيل الروضة ،أفتقدها ليس كفكرة فارغة ؛ بل كأحداث مضت وكانت تضج بروح الحيوية وتسطع بأضواء الأمل ،وتتصاعد كالسحاب في السماء ، أفتقدها كأغنية فيروزية في صباحات الشام . كفقدان الشعور بالدفء. وترقب مطر نيسان ، أفتقدها فأشعر بالغصة كأن الطريق فارغ ، و روح الشباب خبت والأمل تبدد وذكريات الماضي تلاشت.













ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  يكمن سر "القصص العظيمة" في عدم وجود أسرار فيها. "القصص العظيمة" هي القصص التي سمعتها وتريد الاستماع إليها مرة أخرى. تل...